Thursday, April 7, 2016

أطفال الحجارة وثوّار الجعارة


في الطريق من كاراج البرامكة إلى مخيّم اليرموك صدح من مذياع التاكسي صوتٌ جهوريٌّ "حربجيٌّ" لمذيعٍ قفز فجأةً وسط سيلٍ من أغاني النضال والمقاومة وصاح مهدّداً:"هنا إذاعة القدس. جاءنا الان ما يلي, تقوم مجموعاتٌ فلسطينيّة بالتقدم نحو حاجز قوّات الإحتلال الإسرائيلي في شارع "كذا" ولقد سبقتها مجموعاتٌ إلى حاجزٍ آخر في شارع "كذا" وتقوم حالياً بمهاجمته". نبرة المذيع الحماسيّة وصوته المتهدّج بصلابة يوحيان بأن المعركة الدائرة هناك حيث مصادره الإخباريّة التي ذكرها هي بحجم معركة العلمين التي دارت بين الجيش البريطاني بقيادة الفيلد مارشال مونتغمري من جهة وبين الجيشين الإيطال والألماني بقيادة رومل "ثعلب الصحراء" من جهةٍ أخرى وليست مجرد صِبية يرشقون الجنود بالحجارة. انتهى البيان وعادت الإغاني الوطنيّة.

إذاعة القدس هذه هي ملكٌ لأحمد جبريل ربيب معمّر القذافي وحافظ الأسد الذي ابتلع مئات الملايين من الدولارات من الأوّل ونفّذ الكثير من الأعمال القتاليّة الداخليّة لصالح الثاني على مدى على مدى أكثر من نصف قرنٍ من النضال "لأجل تحرير الأرض والانسان" كما يقول شعار الجبهة الشعبيّة – القيادة العامّة. تغنّت هذه الإذاعة, كما الكثير من المنصّات الإعلاميّة الفلسطينيّة والعربيّة بأمجاد "أطفال الحجارة" واشبعوهم شعراً ونثراً وما بينَ بينْ حتى أصبح هذا التعبير تابو شعاراتيّاً آخر يضاف إلى حزمة الشعارات البرّاقة المكوّمة في الوعي الجمعي الفلسطينيّ والتي لا يجرؤ فلسطينيّ واحد على طرحها في ميدان البحث, كأن يناقش مثلاً الجانب الإنساني في جرائم القتل اليوميّة التي تطال أطفالاً فلسطينيّين لا يدركون حجم الأخطار التي تترصدهم يوميّاً أثناء تصدّيهم للقوّات الإسرائيليّة المدجّجة بالسلاح فيلعبون بالموت بمرحٍ واستهتار بينما ينشغل أصحاب القرار في قيادة الفصائل الفلسطينيّة المسلّحة بتجييش الإعلام العربيّ والدولي بهدف تحويل مشاهد القتل اليوميّ هذه إلى أوراق ابتزازٍ للقوى السياسيّة المناهضة لهم, ولتضحي صور الأطفال المخضّبين بدمائهم أدوات نضاليّة ووسائلاً لتحسين شروط القادة التفاوضيّة. ما هو مقدار النبالة التي يقتضيها إرسال المال والأوامر لإستغلال مشاعر الوطنيّة والبطولة عند الأطفال والمراهقين وإرسالهم إلى مَقاتلهم بدلاً من إستخدام هذه الأموال لبناء انديّة رياضيّة مثلاً تقوم بتحويل اندفاعاتهم نحو مساراتٍ أخرى تليق بطفولتهم بدلاً من حشوهم بالهراء وقتلهم لمجرّد الانتفاع بجثثهم في البازار السياسيّ والإعلامي.

إن الوحشيّة التي أبدتها الحكومة الإسرائيليّة في التعامل مع هؤلاء الأطفال لا يوازيها سوى الوحشيّة التي أبداها إزاءهم أولئك القادة السياسيّون الفلسطينيّون الذين يرسلون أطفالهم إلى إوروبا والولايات المتّحدة الأميركيّة للدراسة والإستجمام بينما يشقّون بدماء أطفال الفقراء مساراً للسلام. ان تعبير "أطفال الحجارة" الذي يتباهى به الفلسطينيّون ويتفاخرون به هو في حقيقة الأمر وصمة عارٍ على جبين قادتهم أولئك, وانا هنا أعني الجزء المتعلّق باستخدام الأطفال في الإنتفاضة وليس الانتفاضة نفسها التي أسهمت بتشكيل هويّة كيانيّة فلسطينيّة للمرة الأولى خارج نطاق الشعارات الرنّانة. هذه الإنتفاضة ستستمرّ خمسة سنوات من 9/كانون أوّل/1987 وحتّى 13/أيلول/1993 تاريخ توقيع إتفاقية إعلان المبادئ في أوسلو بين م.ت.ف والحكومة الإسرائيليّة وسيسقط ضحيّتها من الجانب الفلسطينيّ على أيدي جنود الإحتلال 1,376 قتيلاً بينهم 281 طفلاً من أطفال الحجارة وسيسهم المستوطنون الإسرائيليّون (المدنيّون) في هذه المقتلة فيسقط على أيديهم 115 قتيلاً بينهم 23 طفلاً. ولم يتساءل أحد من المطبّلين والمزمّرين للزعماء عمّا إذا كان إتفاق أوسلو الهزيل هذا والذي لا زال في طور التطبيق رغم مرور 22 عاماً على توقيعه, يستحقّ كلّ هذا الكمّ من الموت البريء.

No comments:

Post a Comment