Tuesday, April 5, 2016

سعادة السفير كبير الحمير



العقيد خالد عارف أمين سرّ منطقة صيدا القادم إلى العمل التنظيميّ والسياسيّ من باب الأجهزة الأمنيّة التي خدم فيها لم يخلع أبداً هواجسه الأمنيّة التي اعتاد عليها. كلّ من يعمل لديه أو يتّصل إليه يجب ان يكون عيناً له على بقيّة زملائه وصحبه من العناصر والكوادر والضبّاط. عامل الشاي في المقرّ, حراسه الشخصيّين, ضابط تسليحه, ضابط إدارته, ضابط ماليّته, أعضاء هيئة العمل الشعبي, سائقه, حارس باب مكتبه, ضبّاط ملاك المقرّ كلّ من يمتّ بصلةٍ له هو جاسوسٌ له. أدق وصفٍ لهذا المناضل الذي لا يشقّ له غبار هو ما جاء في النكتة التي ألقاها على مسامعي ضابط ماليّته مروان ناصر, قال: زعموا ان خالد عارف تلقّى طرداً بريديّاً وعندما فتحه اكتشف انه مليء ببودرة بيضاء اللون, فسارع عبد معروف (ضابط إدارته) إلى تحذيره من ان هذه المادّة قد تكون "الجمرة الخبيثة" ورجاه ان يسمح له بتذوقها قبله حرصاً على سلامته فنظر إليه خالد عارف نظرةً هازئةً وأجابه:"انا من علّم الجمرة الخبيثة مهارة  الخباثة".
يعكف خالد عارف منذ سنواتٍ على مهمّة واحدةٍ كرّس لها نفسه بتفان عظيم وإتقان محكم وهذه المهمّة هي تسويق نفسه إعلاميّاً. هذا الهاجس الدائم الذي يشغله ويدفعه إلى الظهور على سطح الإعلام لا ينبع فقط من نرجسيّته بل من إدراكه الفطريّ وأيضاً المكتسب لجوانب اللعبة السياسيّة التي خبرها أثناء عمله لدى القادة الأمنيّين – السياسيّين أمثال أبو إياد وأبو الهول. فإن الظهور الإعلامي غالباً ما يترجم إلى نفوذٍ سياسيّ وجاهٍ إجتماعيّ وما يلبث ان يخلق قاعدةً جماهيريّة ستلفت بالعادة انظار القيادة "الحكيمة" فتسارع إلى تقريبه مع قاعدته إليها وتمهّد له الوصول إلى مناصب أعلى بشرط ان يعلن وفاءه وإخلاصه لها. هذه القاعدة الجماهيريّة التي يحلم عارف بتشكيلها وإستثمارها لها على الأرجح الدور الأبرز في دوائر العسس الذي يحترف تشكيلها بحيث لا يعود أحد من العناصر والكوادر التابعة لمنطقة صيدا التنظيميّة يجرؤ على انتقاده أو التعرّض إلى مواقفه وأساليب عمله بل يصبح الكلّ من مدّاحيه خشيةً على ما يتلقّونه من فتات موائده.
من الطريف ان الذين يؤبّنون الشهداء ويرثونهم ثم يعاهدونهم على إكمال المسيرة غالباً ما يعمّرون طويلا, وخالد عارف محترفٌ للخطابة الخشبيّة من كلّ الانواع وفي كلّ الظروف. خطابةٌ من النوع الذي لا يصغي إليها أحد بل يكتفي المحتشدون في مهرجاناته الخطابيّة بالتصفيق عند كلّ ذكرٍ لتعبير "القائد الرمز ياسر عرفات" فليس الخرفان وحدها هي التي تتشابه بل كذلك الخطّابون. لا يكاد يمرّ أسبوعٌ واحد دون مهرجان خطابيٍّ أو مسيرةٍ تضامنيّةٍ أو وقفةٍ إحتجاجيّة لعارف وجماهيره في مخيّم عين الحلوة. يوم الشهيد, يوم الأرض, يوم القدس, يوم الشهيد الفلاني, يوم الشهيد العلّاني , أيام الإحتجاجات على تقليص خدمات وكالة الأونروا "لجماهير شعبنا الفلسطينيّ البطل", يوم التضامن مع العراق, يوم التضامن مع لبنان, يوم التضامن مع فيديل كاسترو, يوم الدفاع عن القرار الفلسطينيّ المستقلّ, وكلّ ما يمكن إختراعه من أيام.
يبدأ الحفل بتجميع جميع المدرجين على قوائم الرواتب في منطقة صيدا ومخيّماتها وهم بالمئات, عند مدخل المخيّم أمام مكتب شعبة عين الحلوة التابعة تاريخيّاً لماهر شبايطة التابع تاريخيّاً بدوره لخالد عارف. يضاف إليهم عند الإمكان بعض المجموعات من الفصائل المواليّة لحركة فتح مثل الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ وجبهة التحرير الفلسطينيّة وحزب "فدا" الوليد الذي أسسّه ياسر عبد ربّه ومعهم راياتهم التنظيميّة خافقةً فوق رؤوسهم. وكذلك تضاف البهارات الضروريّة المتمثّلة بطوابير الأشبال الذين يتشكّلون أبناء الكوادر الفتحاويّة مضافٌ إليهم 35 ألف ليرة لكلٍّ منهم شهريّا ورغم ان أبناء وبنات خالد عارف وكذلك أبناء وبنات ضابط ماليّته وضابط إدارته هم من هؤلاء الأشبال ويتلقّون نفس الراتب إلّا انهم لم يحضروا يوماً هذه المسيرات أو الإحتجاجات بسبب خطورتها. إذ ان الحالة الأمنيّة في المخيّم وتعدد الفصائل المسلحة المتناحرة فيه تجعل من هكذا تجمّعاتٍ سياسيّة هدفاً شبه دائم للخصوم السياسيّين خصوصا منهم الأصوليّون ودائما ما تحدث خلالها إشتباكاتٌ أو تفجيراتٍ أو تهديدات. بل ان الدور الرئيس لطوابير الأشبال التي ترافق المسيرات "العارفيّة" في اختراق مخيّم عين الحلوة عبر الشارع الفوقاني ثم العودة من الشارع التحتاني والتوقف أمام مكتب الشعبة من جديد لإلقاء الخطب البتراء هو الإحتماء بهم والتمترس وراءهم.
في فترة تجميع "الجماهير" وبانتظار ان يطلّ عليها خالد عارف وأورطته ليتصدّروا  المسيرة وأمامهم  حرّاسهم الشخصيّين المدجّجين بالسلاح يقوم إبراهيم الشايب المسؤول الإعلامي لخالد عارف بالتوصيلات الكهربائية اللازمة فتصدح المايكروفانات بالإغاني الثورية القادمة من زمن السبعينات مثل "غلّابة يا فتح" و"انا صامد صامد" وتخالطها أحياناً بعض الإغاني الحديثة التي تمتدح القائد الرمز وكوفيّته. وفي نفس الوقت وقبل ظهور القادة ببضعة دقائق يتسلّل بين الجماهير عبد معروف ضابط أدارة منطقة صيدا حامل كشوفاً بأسماء المنضوين فيها ويضع علامات أمام أسماء الغائبين. في النهاية يطل خالد عارف ومعه رهطٌ من الكوادر العليا ثم تدور المسيرة دورتها المعتادة داخل شارعيّ عين الحلوة بينما "الصحفي" عصام الحلبي "يطقّ" الصور ليرسلها مع الخبر إلى مدير المجلّة التي تصدرها حركة فتح في لبنان وعصامٌ هذا يعرف تماماً ان خالد عارف سيغضب عليه إذا خلت الصور المنشورة في المجلّة من شخصه الكريم. يحدث أحياناً ان ينفرط عقد المسيرة قبل  عودتها إلى مكان انطلاقها بسبب إشتباكٍ مسلّحٍ أو إطلاق نار ويحدث أحياناً عند العودة ان يتمّ رمي المتفجرات أو العبوات المزروعة سرّاً فيتدافع المتدافعون وسط دعوات عارف عبر الميكروفانات للجماهير بالصمود وإكمال الإستماع إلى خطابه.
الخطب البتراء هذه تشبه إلى حدٍّ كبيرٍ صحف النظام السوريّ "الثورة" و"تشرين" و"البعث" التي لا يتغيّر فيها شيءٌ من يومٍ إلى يوم سوى تاريخها وكلّماتها المتقاطعة. وأجزم ان عبد معروف الذي يكتبها له لا يقوم بشيء سوى تغيير بعض التعابير حسب نوعيّة المناسبة الوطنيّة التي ستلقى بها إذ لا يجوز مثلاً ان تركّز على يوم الأرض في خطابك الذي تحتجّ به على ممارسات وكالة الأونروا المجحفة بحق الشعب الفلسطيني والعكس صحيح. عادة ما تبدأ خطاباته بنداء الجماهير والإخوة والأخوات ثم حشوٌ كثيرٌ من شعاراتٍ ممجوجة وركيكة عن الإدارة الأميركيّة والجمهوريّين الجدد وعن الدفاع عن المقدسات وحقّ تقرير المصير, و"نحن ضيوفٌ على الأراضي اللبناني" (رغم ان 98% من فلسطينيّي لبنان ولدوا في لبنان) و"التأكيد على حقّ العودة" و"لن نسمح لأيٍ كان بالعبث بأمن المخيّم" (رغم انه أوّل العابثين) . وفي النهاية تأتي "الكليشيهات" الختاميّة المعهودة عن "العهد هو العهد, ووالقسم هو القسم" والتحيّة إلى القائد الرمز ثم "واننا لعائدون".
كل هذا الصخب شبه الإسبوعيّ يهدف إلى تحقيق نتيجةٍ واحدةٍ هي جملةً في الصفحة الرابعة أو الخامسة من الصحف اللبنانيّة فحواها ان مسيرةً ما قد جرت في عين الحلوة و"قد ألقى العقيد خالد عارف في ختامها خطبةً في الجماهير المشاركة أكّد فيها على الثوابت الوطنيّة ".

غسان أبو العلا
صفحة من كتابي " الخديعة "
-          ملاحظة : سعادة اللواء خالد عارف هو حاليّاً سفير فلسطين في مملكة البحرين

No comments:

Post a Comment