Sunday, April 3, 2016

باني سوريّا الحديثة .. وأفرانها - صفحة من كتاب الخديعة


قد تكون سوريا هي المكان الوحيد في العالم الذي تجد فيه مخبزا يطلق عليه في الألفية الثالثة اسم " المخبز الآلي " هذه التسمية " الإحتفاء " هي نموذج عن الخطاب الرسمي السوري . وعلى المواطن ان يكون فخوراً بإنجازات الرئيس القائد " باني سورية الحديثة " , و المكننة هي من اهم مؤشرات الحداثة , فقط لم ينتبه مدراء التسويق الإيديولوجي البيروقراطيين _ ربما بحكم العادة_ أن المخابز الآلية لم تعد مدعاة فخر و اعتزاز بل ان العجن الآلي هو المتبع حالياً حتى في مجاهل افريقيا . بنفس الطريقة دأب الإعلام السوري على التغني بالمواجهة والصمود حتى في اشد ساعات النظام حلكة و احطّها انهزاما و إنكسار . فحين خرج اللواء 82 المتروك لمدة ثلاثة اشهر تحت الحصار في بيروت , والذي لم ينجح في الإفلات من عنق الزجاجة إلا كتفصيل من تفاصيل إتفاقية جلاء القو ات الفلسطينية جرى إبرامه مع القوات الغازية , ورغم ان اللواء المذكور كان عليه ان يمر مخذولا عبر بوابات و معابر ونقاط تفتيش ومراقبة اقامها الإسرائيليون على طول الطريق المؤدية من بيروت إلى البقاع , فقد نظم له إستقبالا شعبياً و رسمياً حاشداً على معبر المصنع الحدودي بين لبنان و سوريا و خلدت " صولاته و جولاته " بل و " انتصاراته " في الأدبيات البعثية الرسمية . نفس الإستقبال و اكاليل الغار و حفلات الزار نصبت لألوية أخرى فرّت بقرار مذعور ومرتبك في : .... بعد أن ايقن النظام ان الولايات المتحدة تعني ما تقول بخصوص إنسحابه وإلا ! . كان على رأس المنسحبين رستم غزالة , رئيس جهاز الإستخبارات العامل في لبنان و رجل المهمات القذرة الذي استقبل إستقبال الأبطال في منطقة المصنع على مشارف دمشق و رفع على الأكتاف وسط صيحات : بالروح ..بالدم .. نفديك يا بشار .
على منوال " المخابز الآلية " تلك , كانت ماكينة الأعلام السورية لا تزال ترفع شعار " حتمية إنتصارنا " في نضالنا ضد الصهاينة بموآزرة " حلفائنا في المنظومة الإشتراكية و على رأسهم الإتحاد السوفياتي الصديق " في عزّ أزمة الوجود و إرهاصات الإنهيار على تخوم هذه المنظومة " المنظومة " وتفتّت لُبناتها في بولندا والمانيا الشرقية . ثم كان السقوط الكبير و انفرط عقد الإتحاد السوفياتي بينما كانت أخبار تحديث اهراءات القمح في حمص و تطوير قدراتها الإستيعابية تتصدر الصحف السورية جنباً إلى جنب مع اخبار فقدان الإسمنت السوري من الأسواق و بيعه بأسعار مضاعفة في السوق السوداء . كان هناك ايضاً أحاديث عن " الإنتصار الحتمي " إنما دون ذكر ل"المنظومة الاشتراكية و على رأسها الإتحاد السوفياتي الصديق " . هكذا ببساطة تنقلب كل الركيزة الخطابية و مفاهيم التسويق الإيديولوجي دونما اي تبرير او قراءة نقدية او حتى إعتذار , و يمرّ الأمر كأن شيئا لم يكن .
بعد الإنهيار السوفياتي أُعلنت روسيا الإتحادية وريثة شرعية لديون و مستحقات الدولة السوفياتية وبدأت لاحقاً الوفود و الوفود المضادة السورية الروسية تتبادل الزيارات و اللقاءات التي كانت " حسب الإعلام السوري " تتناول المصالح المشتركة و القضايا التي تهمّ البلدين , و هي الديباجة نفسها التي استخدمت لوصف جميع الزيارات الرسمية السياسية و الدبلوماسية الطابع التي شهدتها سورية خلال ثلاثين عاما من عمر النظام الاسدي . في الواقع , كانت اللقاءات السورية الروسية تتناول الديون السورية المستحقة لروسيا والبالغة 16 مليار دولار ( إضافة إلى 5 مليارات اخرى مستحقّة لالمانيا الشرقية و المجر و بلغاريا وباقي الدول الاروبية الشرقية ) موّلت بمعظمها صفقات اسلحة و ملحقاتها من " هدايا " وعمولاتٍ و رشاوى . وهذه ارقام هائلة لحجم الدين العام على ضوء حقيقة ان دخل الفرد في سوريا لا يكاد يتجاوز حافة ال 1000 دولار سنوياً .
يتضرع المتدينون المسيحيون إلى الرب في صلواتهم اليومية أن " أعطنا خبزنا كفاف يومنا " والخبز في صلواتهم هو طبعا كناية عن الرزق بشكل عام , في سوريا السبعينات و الثمانينات – و حتى التسعينات و إن بدرجة اقل – كان كفاف يومٍ من الخبر يعدّ كابوساً يوميّاً بالمعنى الحرفي لأرباب الأسر , ليس بسبب سعره الذي كان زهيدا حيث ان الدولة كانت تدعمه , بل بسبب ندرته التي تسبب بها هذا الدعم نفسه . فسعر رغيف الخبز في عرف منظري البعث الايديولوجيين هو مقياس لمدى نجاح تطبيق الاشتراكية في الدولة و المجتمع فالخبز هو السلعة الرئيسة التي يتم الحديث عنها في المنشورات الحزبية و التنظيرات الصحفية الساذجة . لذا كانت الدولة تشتري الطحين بأسعار الأسواق السائدة ثم تقوم ببيعه وفق كوتات معينة لأصحاب الأفران بأسعار زهيدة بشكل كبير بحيث أصبح بإمكان اصحاب الأفران جني ارباح اكبر عن طريق إعادة بيع الطحين في السوق السوداء بين من خبزه و بيعه في أفرانه وفق تسعيرة وزارة التموين و في نهاية الدورة الإقتصادية لهذه السلعة كان القسم الأكبر منها هذه " الهبة " الحكومية لجموع العمال و الفلاحين يتكدّس في مخازن يمتلكها كبار ضباط الجيش و الأجهزة الأمنية لكي يعاد بيعه في الأسواق المجاورة , الاردن والعراق و لبنان خصوصاً . والنتيجة على رب الأسرة ان يصحو ساعتين قبل موعده لكي يتسنّى له الوقوف باكرا في الصف الطويل _ لم يكن صفاً إنما جموعاً محتشدة غالبا _ امام مخبز الحيّ في محاولة _ لا تتكلّل دائماً بالنجاح _ لتأمين خبز عائلته كفاف يومها بل ذهابه إلى العمل . ما يقال عن الخبز , يمكن إسقاطه على بقية السلع الأساسية – المدعومة هي الاخرى – كالرز و السكر و السمن الذي كان التمكن من شراء عبوة كيلو منه يعد قضية تستحق التهنئة .

بين إقتصاد الخبز المدعوم و ايديولوجيا " حلفائنا في المنظومة الإشتراكية " اطبقت أجهزة الأمن قبضتها الحديدية على الدولة و السكان بعنفٍ منقطع النظير وأُعلنت الأحكام العرفية و أُوقف العمل بالدستور و جرت مصادرة الحريات السياسية و الفكرية وأكتظت اقبية مقرات الأجهزة الأمنية بعشرات الآلاف من المعتقلين بدون محاكمة او حتى تهمة مُعلنة او أذون من النيابة العامة . كانوا مختطفين أكثر منهم معتقلين . مجموعة من المسلحين الذين يرتدون الالبسة المدنية تطرق باب البيت في ساعات الصباح الأولى قبيل الفجر تماما , حيث يكون الناس بغالبيتهم في سبات , ليصبح رب ا لدار ا و احد ابناءه في اليوم التالي معتقلاُ امنيا في جهة مجهولة و لفترة مجهولة و تهمة غير معلومة . ثم تبدأ علمية البحث الطويلة و المضنية و المكلفة ماديّاً . و البحث هذا لا يطمح لأكثر من معرفة الجهة الأمنية الخاطفة التي لم تعرف عن نفسها يوم استدعت المطلوب ودعته إلى" فنجان قهوة" . وفنجان القهوة هو من علامات الضيافة العربية الذي اصبح الذيمة العجيبة المستخدمة من عناصر القوى الامنية التي تقوم بالمداهمات : تفضل معنا عازمينك على فنجان قهوة . و يغيب الضيف سنوات طويلة . أحيانا , أذا ما امتلكت اسرة المعتقل ما يكفي من المال لدفع الرشاوي كانت تتوصل إلى معرفة " سبب " الإعتقال .
في أقبية الإستخبارات تلك دار افظع ما يمكن تصوره من عمليات التعذيب الجسدي و النفسي و بأدوات و ألات اطلق عليها رجال التحقيق اسماء مثل " الكرسي " و " الدولاب " و " بساط الريح " فأصبح مجرد ذكرها على أسماع السوريين يثير في نفوسهم هلعاً تنخلع له قلوبهم و ترتعد فرائصهم . و كان أن عمّ الرعب و الخوف و سيطر على الناس ما يشبه الخنوع .

غسان أبو العلا
7/10/2014


No comments:

Post a Comment